أحزان أم

طال بنا الوقت ونحن نتجمع في مسجد النعانعة ، وانصرف البعض إلى حين ، لكن شركاء الأحزان لا ينصرفون ، وانشغل المقربون بمداومة الاتصال  بمستشفى طوارئ المنصورة ، وأذن الفجر وانتظرنا قليلا ومازال
موكب الأحزان بعيدا  .
ماتت الزوجة وهي لاتعلم أن زوجها قد سبقها إلى جوار ربه إثر حادث السيارة الأليم بشرم الشيخ  !!
وهي بين الحين والآخر تسأل أختها المرافقة لها بالمستشفى :
_لماذا لم يأت لزيارتي ؟
_لأنه محجوز بمستشفى شرم الشيخ .
_ ألم يسأل عني ؟
_ هو دائم السؤال عنك .
_ ولماذا لا يتصل بي ؟
_ لأننا نرد عليه وقد منع الأطباء عنك ذلك لعدم الانفعال .
وكثيرا ما كانت تسكت متشككة ، وترد علينا دموعها !!

طال بنا الوقت ونحن في انتظار الجثمان ، وصلينا الفجر بالمسجد وركن البعض إلى الانتظار ، وانصرف آخرون .. وتوالت الأخبار عن وصول الجثمان بعد دقائق ..
افترش النساء الأرض قبالة المسجد وبين الحين والآخر تعلو أصواتهن   بالصراخ !! المصيبة كبيرة ، والتصبر صعب ، والقلوب واجفة ، والدموع لا تجف !!
وصل الجثمان وتزاحمت مع الناس المشاعر ، وأطلت من عيون الكثير دموع ودموع !!  ودخل الجثمان المسجد وزاد العدد والصياح والبكاء !! ودخلت الأم باكية متوسلة :
اتركوني أودع ابنتي ووالله لن أتكلم .
وانقسم الناس بين مؤيد ومعارض ! أما أنا فكنت من المؤيدين ، إذ لابد من احترام مشاعر الأمومة الكليمة .. وسكت الجميع ، وهدأ المسجد ، وأطلت دموع !!
تقدمت الأم الحزينة هادئة ملتزمة ، والجثمان  في  صندوق الأحزان ، وأكبت بنصف جسمها على أكفان تلف ابنتها وساد سكون رهيب !! مرت دقائق والأم تقبل جثمان ابنتها !! ياترى ماذا قالت أحزانها  ودموعها ؟!
 لغة لا يعلمها إلا الله ! وانتظر الجميع وطال الانتظار مع أنها دقائق ! الزمن نقيسه في مثل هذه الحالات بالإحساس وليس بالمقياس ! واحترم الجميع سكون الأم وسادت لغة الدموع  والأحزان التي تحتشد فيها ساعات
العواطف المضغوطة التي يطول شرحها وتبيانها .
رفعت الأم قامتها ووجهها المغطى بالدموع وبكى الكثير من حولها . قدم لها أحدهم كرسيا تجلس عليه فجلست ساكتة ساكنة  في آخر المسجد وقام الناس لصلاة الجنازة .أما هي فقد خرجت بعد الصلاة وقلبها يذوب حسرات
 وتتقاذفها أمواج  من بحور اللاوعي المظلم الذي يسلمها بين الحين والآخر إلى  ذكريات ابنتها وزوج ابنتها ، وقلبها يعتصره ألم تلك الذكريات الراحلة والأحزان المتجددة ، ولا تجد فكاكا من قسوتها !!
                      وأيام وينفض عنها البعيد والقريب !! وتبقى هي تعاني كما عانى أمثالها من قبل إلى أن يتغمدها الله برحمته  ،  وينزل السكينة على قلبها .

                                    و اغفر  اللهم لابنتها ولزوجها الذي سبقها إلى الموت وماتت وهو في قلبها لم يمت .
 

                                                        محمود البسيوني ..... 12  من مايو 2015